من المعروف أن منطقة جازان غنيّة بتضاريسها المختلفة التي تمنحها تنوعا في أحوالها الجوية والبيئية استنادا لتضاريس كل محافظة لكن مشكلتي الأزلية التي لم أكتشف أنها مشكلة إلا بعد مغادرتي جازان والاستقرار في مدينة الرياض بحكم ظروف العمل هي الرطوبة.
لم أكن أعرف في سنيّ حياتي العشرين الأولى أن الرطوبة قد تكون مشكلتي في القادم من عمري كما أني لا أعرف كيف كنت متعايشا معها حتى ظننت أنها جزء من تكويني سابقا كما لا أعرف كيف أنسجم الآن مع جفاف الرياض الذي يمتد لجسدي وكأنه جزء من تكويني حاليا.
ما نسيته في سنواتي الأخيرة أن جازان تملك موسما ليس كموسم الرياض لكنه أعرق منه وكدت أنساه لولا زيارة لجازان على عجل أعادت ذاكرتي (يبدو أننا في موسم الغُبْرة).
الغُبْرة (أو الغبار للقراء من خارج جازان) تطلق العنان لنفسها سنويا في فترة الصيف ما بين (يونيو وأغسطس) تقريبا وكأنها تمنح الناس إجازتهم لتبدأ عملها في تعتيم الرؤية بشكل كامل معرضة من يحاول تجاوزها لحوادث مرورية مؤسفة أو تمددها على الاسفلت أكواما بعد تعبها من الدوران في الفضاء معرضة من يحاول المرور عليها أو تجاوزها لخطر الانقلاب لاسمح الله ويبدو أن غياب التشجير ساهم في ضراوة الغبرة وآثارها لكن البلديات تحاول يوميا إزالة هذه الأكوام لتجنب هذه المصائب قبل حدوثها.
ما يشدّني في الغُبْرة هو مسماها ومحافظة أجدادنا على المصدر واستخدامه وهذا لا يحدث مع الغبرة فحسب بل كثير من التسميات والمسميات قد تكون اندثرت في لهجات أخرى وقل استعمالها في الفصحى لكنّها حاضرة في اللهجة الجازنية بمعناها القديم أو بتحريف يوائم احتياجاتهم للتعبير قد يمكن إعادته للمعنى القديم بسهولة.
والأغرب أن يخبرك أحدهم "أنّها تِغْبِرْ" ولن تعلم من الفاعل لكن سترى الفعل وهذا كافٍ جدا ففي كل مرةٍ تقع على سمعي هذه الجملة أحاول الذهاب لما خلفها للفاعل ويستقر في يقيني أن الجد الأول كان مؤمنا أن دنياه هي من تغبر أو أرضه أو سماؤه لكنه اختار أن يَبْلُغَنا الفعل واحتفظ بالفاعل لنفسه.
وبعد هذه السنين يبدو أن كل شيءٍ كما كان عدا مرور الوقت فالبلديات تقوم بعملها لتلافي الكوارث والدنيا ما زالت تِغْبِر وأنا تشدّني اللغة وتذبحني الرطوبة وتدفنني الغُبْرةْ.
طارق الصميلي